هذه وصيتي، وتلك رغبتي، فها هو الأجلُ قد دنا واقترب. لا أريد قبرًا سرمديًا، ولكن أريد قبرًا يرى السماء وتراهُ؛ لتؤِنسَني في غربتي الجديدة. عشتُ في غربةٍ موحشةٍ، فلا أريدُ أن ترافقني هذه الغُربة مُجددًا إلى قبري. أريدُ قبرًا يرى السماء؛ حتى تتسللَ إليه كلَّ صباح، إشراقة تبددَ ذلك الظلامَ الدامسَ الذي يحتلُّ القبورَ ويستوطنُها، فمثلي يكرهُ الظلامَ، وتخنقُهُ الأماكنُ المُغلقة على اتساعها وارتفاعها، فما بالكم بالقبر ووحشته؟! لا أطيقُ النومَ؛ لأنه قرينُ الموتِ وشبيهُه، وإنْ نمتُ فلا بدَّ أن يرى مخدعي السماءَ وتراه. أريد قبرًا يرى السماء، حتى أشكوَ اللهَ، كلَّ صباح، ما ألمَّ بى في محياي، وحتى أناجيَه في مماتي.
في اليوم الأول.. سوف أناجي اللهَ تعالى شاكيًا: بي ما علمتَ من الأسى الدامي/ وبي من حُرقة الأعماق ما لا أعلمُ/ بي من جراح الروح ما أدري/ وبي أضعافُ ما أدري وما أتوهَّمُ/ وكأنّ روحي شُعلة مجنونة/ تطغى فتضرمني بما تتضرَّمُ/ وكأنّ قلبي في الضلوع جنازةٌ/ أمشي بها وحدي وكلّي مأتمُ/ أبكي فتبتسمُ الجراحُ من البُكا/ فكأنّها في كلّ جارحة فمُ.
فى اليوم الثانى.. سوفَ أخبرُ اللهً تعالى –وهو سبحانه أعلم- بأنَّ فرعونَ لم يمتْ بعدُ، وأنَّ قارونَ لم يزلْ حيَّا، يمارس بطشه وظلمه في كل مكان، وأنَّ هامانَ لم يعدْ واحدًا أو اثنينِ، بل أصبحَ أمَّة، وأن النمرود عاد أكثر شراسة، ولا يزال يظن أنه يُحيي ويُميت، وأنَّ أبا جهلٍ صارَ نبيَّا في زمن الضلال، وأنَّ أبا لهبٍ يتحاكى بلطفِهِ وكرمِهِ الرُّكبانُ، أن حمَّالات الحَطب صِرن هوانم المجتمع، وأنَّ الإسلامَ غدا غريبًا، وأنَّ الأنجاسَ الملاعينَ يتناوبون الإساءة إليه والطعن فيه.
فى اليوم الثالث.. سوف أخبرُ اللهَ تعالى –وهو سبحانه أعلم- بأنَّ الفسادَ ظهرَ في البرِّ والبحرِ وجميع الفضاءات، حتى عمَّ وتوغَّلَ وانتشرَ، وغدا حاكمًا ومُتحكمًا ومسيطرًا. سوف أبلغه بأنَّ بعضَ رجال الدين يتاجرون به ويرتزقون منه ويضعونه مطيَّة لأسيادهم، حتى تخلى عنه الصغارُ وألحدوا وانسلخوا من دين الله أفواجًا، وأن القرآن الكريم يتخذه سدنته وحفظته ومَن هم مؤتمنون عليه سِخريًا وهزوًا، حتى همَّ الإسلام أن يكتب استقالته مُغادرًا!
فى اليوم الرابع.. سوف أخبرُ اللهَ تعالى –وهو سبحانه أعلم- بأنَّ الأرضَ لم تعدْ على وفاقٍ مع السماء، حتى أصبحتْ هناك خصومة حادة بينهما. سوف أبلغه تعالى –هو سبحانه أعلم- بأنَّ الدمَ المسلم صارَ رخيصًا وضيعًا، والأرواحَ بلا قيمةٍ، وأن أربعمائة يوم أو أكثر من قتل أهل غزة لم تحرك ساكنًا، ولم تثر غضبًا، ولم تهز ضميرًا. كما سوف أخبره –وهو سبحانه أعلم- بأنَّ الدم العربيَّ يردد في انكسار:
تساويْتُ والماءَ، أصبحتُ لا طعْمَ، لا لوْنَ، لا رائحة، أسيلُ، فلا يتداعى ورائي النخيلُ، ولا ينبتُ الشجرُ المستحيلُ، أسيلُ، أُروّي الشقوقَ العطاشَ، وأسكبُ ذاكرتي للرمالِ، فلا يتخلّقُ وجهُ المليحةِ، أو حُلمُ فارسها المُستطارِ، وأنزفُ حتى النخاعِ، وينحسرُ المدُّ، تنبُتُ فوقي حجارتُكم، مدنًا تتمدّدُ أو تستطيلُ، وتأكل ما يتبقّى من الأرضِ، لكنها أضرحة!
فى اليوم الخامس.. سوف أخبرُ اللهَ تعالى –وهو سبحانه أعلم- عن الانتهازيين؛ باعتبارهم أكثرَ قُبحًا من المنافقين الجبناء. سوف أبلغه –وهو سبحانه أعلم- بأنَّ هذا الفصيل من البشر، لا عهدَ له ولا أمانَ، ينكرُ المعروفَ، ويكفرُ بالعشير، ويأكل على جميع الموائد والمداود، لا يقاتلُ إلا من وراء جدار، يحسبُ كل صيحة عليه، لا يجيدُ إلا الطعنَ من الخلف، يخشى المواجهةَ، يُحيكُ المؤامراتِ والدسائسَ ويَنصِبُ الفخاخَ، يتقنُ نسجَ الأحاييل، التي هي أوهنُ من بيتِ العنكبوت عندَ مَنْ يعرفُ حالَه ولا تنطلي عليهم حِيلُه..
فى اليوم السادس.. سوف أخبرُ اللهَ تعالى.. بأنَّ الحرام صار سهلًا، فالزنا مُستباحٌ، والشذوذَ يجدُ من يدافعُ عنه ويُقنِّنه ويحاربُ من أجل إباحته، ومن يعارضهم يرفعون في وجهه شعار قوم لوط: "أخرجوا آل لوط من قريتكم؛ إنهم أناس يتطهرون"! سوف أخبره بأنَّ الأمرَ فاقَ ما تنبأتْ به الملائكة يومَ خلق آدمَ، عندما قالوا: "أتخلق فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"؟!
وفى اليوم السابع.. سوف أخبرُ اللهَ تعالى –وهو سبحانه أعلم- عن الخَدَمٌٌ الجُدُد، الذين صعَّروا الخدود كلما مشوا، وغلظوا الصوتَ، فزلزلوا الأرض، وطرقعوا القدم، وإنْ تباهوا أنهم أهلُ الكتاب والقلم، وأنهم في حلكة الليل البهيم، صانعو النور، وكاشفو الظلم، وأنهم ـ بدونهم، لا تصلحُ الدنيا، ولا تفاخر الأمم، ولايُعادُ خلقُ الكون كله، من العَدَم. سوف أخبرُه بأنهم يُستنفرون مثلَ قطعان الغنم، ويهطعون لعلَّهم يلقون من بعض الهبات والنعم. لهم، إذا تحركوا، في كل موقع صَنم. يُكبرون أو يهللون حوله، يُسبِّحون باسمه ويُقسمون، يسجدون، يركعون، يمعنون في رياء زائف، وفي ولاءٍ مُتهم. وفي قلوبهم أمراضُ هذا العصر، من هشاشةٍ، ومن وضاعةٍ، ومن صغارٍ في التدني، واختلاطٍ في القيم.